كانت صدفة جميلة عندما أخبرني الدكتور سعد عليوة، بما له من تحقيقات فريدة في مجال التراث؛ عن طائفة الشماليين، أو طائفة أبي عبد الله الشمالي، وذلك في معرض حديثنا عن الطوائف الغريبة والمغالية في تاريخ العصور الإسلامية المختلفة؛ وهي طائفة غامضة، عاشت في زمن المعتصم لدين الله، ويُعتقد أنها كانت من الفرس بالكامل، لولا بعض العناصر العربية والتركية، وقد أنشأها رجل لا يُعرف عن أصله شيء، سوى أنه كان داعية مُجدًّا، ظهر بمدينة قرب أذربيجان في البداية، وكان فقيهًا من فقهاء الشيعة وتاجرًا في الأعشاب الطبية، وانتقل إلى بغداد من خلال سلسلة من التجارات الفاشلة في عدة بلاد إسلامية أخرى، حيث ذُكر اسمه في كتاب «تجارة الدولة العباسية» الذي حررته الدكتورة نيللي فاروق، الباحثة الشهيرة في هذا الزمن الطويل؛ وأنه كان تاجرًا يبيع خليطًا لعلاج الماناخوليا في مدن أعمال الري، وقد افترش نواحي مسجد قديم عندما وصل العاصمة مفلسًا، وبعد فترة من الدروشة، تبنى معتقدًا غريبًا ومتفردًا؛ أقامه على أساس مقارنة مفاجئة بين الشمال والجنوب، بسبب عبارة واحدة فسّرها في القرآن وهي عن النجم الشمالي، في الآية الخاصة «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ» (49) وكتب عنها:
رأيت فيما يرى النائم أنني روح تنطلق في الفضاء ورأيت سيدنا جبريل وقد أضاء بلون الزبرجد مثلما حدثنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان جناحاه بعرض السماء والأرض؛ وقد سلم عليّ باسمي وطلب مني ألا أذكره مجددًا لأنه يجب أن أحتجب حتى يرتفع علمي، وعرض عليّ الجنة والنار وعرش الرحمن، وكان عرشه فوق وتحته النار وبجانبه الجنة وقال جبريل عليه السلام:
يا أبا عبد الله وعبد الله؛ اعلم أن ما عرضنا عليك من علم الله حتى تخبر قومك أن عرش الله في الشمال، والشمال كلمة خلقها الله؛ لها وجود وتجسد، بينما الجنوب خُلق من كلمة الشمال بأمر الله وليس بكلمته المباشرة، ولذلك فهو صنيع أدنى؛ وجمع الله في الشمال كل ما يعاكس الجنوب وجعلهما الضد الدائم، ومن الشمال خُلق النهار ليُخلق الليل من الجنوب؛ وخلقت الجنة من الشمال لتُخلق النار، وخلقت الحياة شمالًا ليُخلق الجنوب، واعلم أنكم خُلقتم في الشمال أول مرة؛ أي السماء، قبل أن تُخلقوا في الجنوب؛ أي الأرض.
وقد جعلته هذه الرؤية مستبصرًا كما يقول، فاهمًا لماذا أقسم الله على نفسه أنه رب الشعرى، أي رب النجم الشمالي؛ أي رب الشمال - مع تأكيده بأن ربنا رب كل شيء، ورب الشمال والجنوب مثلما هو خالق الجنة والنار - فاكتشف أن شمال بغداد أكثر ثراءً من جنوبها، وأن شمال مصر، التي مر عليها في شبابه المجهول، أكثر ثراءً من جنوبها، حتى توصل بعد تحليل جاد، وتفحص لكل قصص نشأة الخليقة، أن الشيطان قد سقط من السماء، والتي هي في الشمال دائمًا، ووقع في الأرض، التي هي في الجنوب، ولذلك صارت دُنيا، لأن الشمال فوق، والرفيق الأعلى المرجو ليس بالجنوب، ولذلك نشأت حياة الإنسان على الأرض وهي تحمل في بذرتها إشراق الشمال وفساد الجنوب: فكل ما صار شماليًّا علا نجمه وتوافق قدره مع طوالع السعد في السماء، وكل ما صار جنوبيًّا ساء حظه وتأثر بطوالع النحس، كما كتب في كتابه الوحيد والغريب عن مذهب الشماليين هذا، مع تفاصيل أخرى تخص مواقع المدن التي جاء منها الأنبياء، ومواقع مدن العذاب، وتركيز على أن موسى انتصر على فرعون لأنه كان شمالًا مطاردًا من الجنوب.
بعد طباعة الكتاب الذي كتبه بحبر السهر والدموع خلال عقد وهو تغشاه نوبات من الإشراق الروحي، انتشر بمساعدته بين بعض الفرق الفلسفية الدينية، وتوصلوا معًا إلى أحكام أخرى تخص وضع القرآن ناحية الشمال دائمًا في محل السكن بحيث يوضع في زاوية خاصة بالبيت، واختيار الفراش بموضع شمالي، باعتبار أن باب البيت دائمًا بالجنوب، وحتى لا يتأثر منبت الأمان في كل بيت بوجوده في مكان خاطئ، كما أنهم شددوا على ممارسة الحب والرجل في الشمال، والمرأة أسفله؛ في الجنوب، لأن الشيطان يتجلى بينهما عندما تتبدل الأدوار، وإنشاء المساجد في شمال المدينة، مع قصر الحاكم، بدلاً من المنتصف، والذي يضعه في مسار سيء بين خطوط الشمال والجنوب، بينما توضع الزرائب والمخازن وكل السجون والمستشفيات في الجنوب، لأنه يناسب الوجه السيء من العملة: فالجنوب شيطان دائم، على ناحية أخرى من عملة وجهها عند الله في الشمال؛ وهو المذهب الذي انتشر سريعًا، ولاقى ترحيبًا كبيرًا، خاصًة مع تأكيد أتباعه على تغير حيواتهم للأفضل عندما طبقوا أحكامه الخاصة والتي شملت حتى طريقة الأكل ووضع الأطياف، وجعلهم هذا يغالون في تقدير أبي عبد الله، والذي لُقب بالشمالي، وجعلوه في مصاف الأنبياء، أو في مرتبة أدنى للدقة، وعند هذا تسلل العنف إلى الطائفة، لأنهم آمنوا بوجوب إفساد كل جنوب، فأحرقوا قطاعًا من جنوب بغداد، طبقًا لخريطة رسمها جغرافي منهم، فيما عُرف باسم فتنة الشماليين.
وتعاملت السلطة مع ذلك بعنف مستحق، فتتبعوا الجناة، وفوجئوا بكثرة عددهم، والذي وصل وقتها إلى خمسين ألفًا من الرجال المتحمسين، والذين أُطلق عليهم اسم الشماليين، والذين ميّزوا أنفسهم بلون الشمال أي الأبيض، لأن أبا عبد الله قد لاحظ أن قمم الجبال، والتي هي في الشمال دائمًا بحكم الترتيب الأفقي، مكللة بلون الثلج وهو الأبيض، بينما الجنوب ملون بلون الأسود أو الطين، أو كما كتب:
عنصرنا من أديم الأرض الذي خُلق منه آدم، وسقط عليه حينها مطر من الشمال ليصل الشمال الخالق بالجنوب المخلوق ويصل الإنسان بأصله القديم.
وقد قرر الخليفة المعتصم التعامل معهم بحسم، ولأن جيشه كان من التركمان وقتها، أهل والدته، فقد عُد الأمر من ضروب المواجهة الطبيعية بين الفرس والتركمان، وتمادى بعض القادة الترك في التعامل معهم، فصارت هناك مقاتل واعتقالات بالجملة لأسر كاملة من الشماليين، مع إشاعة أنها فتنة فارسية من بقايا سلطة هذا العرق على البلاط العباسي أيام المأمون بن الفارسية قبل أن يأتي المعتصم ويستعيد الدفة للعنصر النقي كما يدعون.
انتهى أمر الطائفة عندما تطورت الأفكار العنيفة، مع قسوة الحملات، وصار هناك حديث متصل عن وضع الكعبة كنقطة أساسية لتحديد كل شمالي، بينما تزال كل بلاد الجنوب بكل امتنان عندما يعتنق الخليفة الفكرة ويقود العالم نحو المستقبل المنشود، ومع كثرة قتلاهم ارتفع منسوب الحماسة والتصديق في قوة الفكرة، فنشأت أكثر الأفكار مغالاة، وهو ما اتصل بفكرة أن أبا عبد الله نفسه شخص مقدس، لأنه أول مبعوث شمالي منذ فترة، وأن هجرة النبي من مكة الجنوب إلى مدينة الشمال كانت سببًا في النجاح، وأن الصلاة التي تبدأ وقوفًا شماليًا، ثم تنتهي جنوبًا، لأنها تمثل حركة الإنسان بين أصله الفوقي الشمالي ووضعه الحالي الجنوبي، وهو ما دفع أتباع الطائفة إلى تغيير أساميهم، فصاروا شماليين بالاسم بعدما صاروا بالفعل، وصار نسبهم ينقطع عند اللقب فيكون اسم الرجل حسن الشمالي بعدما كان حسن بن خالد بن حسن السامرّائي العبسي.
ثم كفّروا كل من يلتزم بالجنوب، بما فيهم الخليفة ذاته، وخاصة بعدما وصلهم النبأ على يدي أبي عبد الله، والذي صار فوق الأنبياء بعدما كان معهم في البداية أو أدنى منهم قليلاً في مقاربة مرتبكة أوردها كما هي:
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ولكنه ليس خاتم العباد الصالحين والذين يعلون الأنبياء أحيانًا كما علا سيدنا الخضر فوق سيدنا موسى عليهما السلام؛ فصار معلمه كما ورد في سورة الكهف، ولهذا رأينا؛ وفقًا للمذهب الشمالي، أنه من الوارد أن يكون عبدٌ فوق نبي، وأن مولانا وشيخنا أبا عبد الله الشمالي صاحب الاسم المحتجب بأمر الله كما احتجب سيدنا الخضر، فصار لقبه اسمه ولا نعرف اسمه الذي صار معروفًا بالله وصفة الخضار التي هي لون الجنة، في مرتبة هؤلاء العباد، وهذا لا يناقض إيماننا بالإسلام الذي نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما لا يناقض وجود توراة سيدنا موسى في نفس وقت وجود تعاليم سيدنا الخضر.
كان هذا كافيًا ليصدر المعتصم قراره بتصفيتهم تمامًا، من أول الشيوخ الكبار منهم وحتى الرضُع، فيما يشبه الإبادة بالمفهوم المعاصر، وأخذ فتوى بذلك بأن جزاء من يسعون في الأرض فسادًا؛ أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم أو يُنفوا من الأرض.
واجه الشماليون الحملات التأديبية باجتهاد واضح وبحس عارم بالاستشهاد، وكان طلبهم الوحيد، قبل حفلات الإعدام التي أقامها المعتصم في الساحات الأهم بالمدينة؛ أن يدفنوا في شمال بغداد، لأن جهنم أسفل أرض الجنوب.
وانتهى أمرهم خلال عامين رغم بعض محاولات المقاومة المسلحة والتي نجحت في احتلال قطاعات من بغداد وإحراقها أحيانًا ووصلت إلى البصرة والكوفة، وأُحرقت نسخ كتاب الشمال لأبي عبد الله، والذي قُطعت رأسه بساحة المنصور وهو يردد بصوت مرتفع، مبتسمًا وكأن وجهه البدر: «وأنه هو رب الشعرى، وأنه هو رب الشعرى».
ثم قال آخر ما سُمع عنه: «يا رب الشمال؛ ارحم عبدك القادم من الجنوب».
ولكن كتابه انتقل من يد إلى أخرى، حتى اندثرت الفكرة تمامًا، رغم تبني البعض لها في ظهورات خفيفة بلا ضجيج، باعتبارها فلسفة خاصة وطريقة فريدة.
وكان أهم ما جاء في آخر الكتاب، هو تحذير أبي عبد الله الواضح، بأن خرائط العالم ستُرسم بطريقة خاطئة، تجعل بلاد الفرنج في الشمال، وبلاد الإسلام في الجنوب، وهي المؤامرة التاريخية التي شدد على الانتباه لها، لأنها ستوقع بلاد الإسلام تحت يدي الشيطان، بعيدًا عن نورانية الشمال، ولذلك كان يعطي انتباهًا حقيقيًا برسم خرائط واضحة للعالم كما يعرفه الناس وقتها، وكما سمع عنه، وهي الفقرة التالية:
وقد حدثتنا بصيرة الرحمن أن أهل الكفر والفرنجة سيحتكرون علم الخرائط لاحقًا ويرسمونها بما يضع بلادنا في الجنوب وبلادهم في الشمال؛ وهذا حتى تصير لهم اليد العليا وتصير لنا اليد السفلى؛ وبعد أن كانوا يهاجرون إلينا من بلادهم المظلمة الغارقة في الفساد لتحصيل العلم، نهاجر إليهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد التزم الإدريسي، الجغرافي الشهير، بذلك عندما رسم خريطته، لأنه تأثر قليلاً بأفكار الشماليين، ولكنه لم يعلن عن ذلك خوفًا من الصخب، وهي خريطة مشهورة، تظهر العالم مقلوبًا، بغير ما نعرفه، أو على الصورة الصحيحة للعالم كما يراه أبي عبد الله الشمالي.